الـ «بيئة» في صفحتها... الأخيرة

wowslider.com by WOWSlider.com v8.6

Saturday, July 9, 2016

عندما يصبح كل مواطن خبيراً
الـ «بيئة» في صفحتها... الأخيرة

fiogf49gjkf0d

"غدي نيوز"


مَن يسكن في علب الباطون ويتنقل في علب معدنية ويعمل في علب مكتبية ويسهر في علب ليلية ويتغذّى من علب بانتظار انتقاله الى العلبة الأخيرة... لن يشعر بشيء خطير ومهم إذا احترقت غابة او أزيل جبل او تمّ ردم شاطئ.
مَن ينغمس بحياته الخاصة وبتأمين حاجاته الخاصة المصنوعة بالإعلانات... لن يجد وقتاً للتأمل في مدى سعادته بما يستهلك.. مَن يَعِش مع الموجودات ومن أجل اقتناء السلع والاستهلاك فلن يفكّر في قضية الوجود.. مَن يظن أن الخلاص بات فردياً فلن يسأل ماذا سيحصل في «الشأن العام». من يجد أن كل شيء بات منهاراً أمامه من سقوط الدولة التي لا بديل عنها لتسيير الشأن العام والمؤتمنة على حفظ الموارد وحقوق الناس الحاليين والآتين، فلن يهتم لجريدة أو صفحة في جريدة.
في الفلسفة البيئية التي حاولنا العمل على إنتاجها وتأسيسها منذ بداية التسعينيات في صفحة «بيئة»، ليس هناك من معنى تراجيدي للموت. فمعظم المفاصل الأساسية لهذه الفلسفة مستمدة من مراقبة حركة الطبيعة وحياتها وآليات اشتغالها. فالموت في الطبيعة هو جزء من دورة الحياة. فالشجر المثمر، ينتج الكثير من البذار قبل أن يشيخ ويموت. والبذار ينتقل من مكان إلى آخر ليعود وينبت ويساهم في تجديد الحياة.
لم يكن سهلاً أن يواجه الإعلام المتخصص والملتزم، الحامل لفكر محافظ سوق الإعلان والإعلانات. لم يكن سهلاً الترويج لـ «ضيان» السلع واستدامتها امام الترويج لجدتها. فللجديد رهجته وسحره الذي تصعب مقاومته. وقد ذهبت كل التنبيهات لعدم الأخذ بما يلمع دون جدوى وقد تسببت أغلفة السلع بأكبر مشكلة بيئية في لبنان بعد أن طافت الشوارع بالنفايات.
لقد أصبحت البيئة والقضايا التي أثارتها صفحة «بيئة» القضية رقم واحد على جدول اعمال مجلس الوزراء، لاسيما حول ملفَّي النفايات والسدود، بعد ملف سلامة الغذاء... وتبقى هذه الصفحة هي الوحيدة التي تناولت موضوع إنشاء السدود بالنقد العميق وفتحت ملف سوء إدارة المياه في لبنان (قبل العام 2010 تاريخ وضع خطة استراتيجية لإدارة المياه)، مبينة أن المشكلة هي في سوء الإدارة والسرقة والهدر وفي تلوّث هذه المادة الاستراتيجية وليس في ندرتها أو كميتها.
لم تحلّ أبسط قضية في لبنان كقضية النفايات المنزلية، وقد كان لصفحة البيئة دور كبير في التحذير من الوقوع في الأزمة قبل حصولها وساهمت في التخفيف من حدتها قبل أن تدب الفوضى السياسية والإعلامية ليتبين أن كل لبناني بشكل او بآخر بات خبيراً في قضايا البيئة، ولاسيما في قضية النفايات.
كان الصراع مع نقيب أصحاب المقالع والكسارات جوزف خوري قد وصل الى ذروته حين قام بأكبر ردمية للبحر في لبنان آنذاك على شاطئ ضبيه (مارينا ضبيه اليوم) وأراد ان يحتفل بإنهاء أعمال الردميات واستملاك الأملاك العامة المردومة (بمرسوم) بمهرجان أطلق عليه اسم «بيئة وموسيقى» انتقاماً من منتقديه التاريخيين. وبعد ان تقرر ان يقام المهرجان فوق منطقة الردم (بتاريخ 26 تموز العام 1997)، تقصد صاحب المشروع أن يجمع في يوم التدشين والمهرجان، «البيئيين»، ممثلين بشكل رئيسي بمنظمة «غرين بيس» العالمية التي كان يمثلها آنذاك فؤاد حمدان والموسيقيين ذوي الطابع اليساري المعارض ممثلين بمرسيل خليفة وفرقته، وغسان الرحباني وفرقته، وبرعاية وزير البيئة آنذاك أكرم شهيب، مع مواكبة إعلامية من الراحل جبران تويني وجريدة «النهار» (الذي خصص للمناسبة ملحقاً خاصاً)، بالإضافة الى دعوة جمعيات محلية صغيرة للتغطية!
عندها أعدَدنا على عجل بياناً يدعو البيئيين ووزير البيئة والمشاركين في المهرجان الى مقاطعة المهرجان الذي اعتبرناه «تطبيلاً وتزميراً لمشاريع خصخصة الشاطئ وتمليك اشخاص وافراد الاملاك العامة البحرية»... وهو «احتفال» بجريمة مزدوجة، عمل مقالع وكسارات شوّهت الجبال لاسيما في انطلياس ونهر الموت (وبينها تدمير مغارة الإنسان الأول في انطلياس) واستخدام جزء من منتجات هذه المقالع لردم الأملاك العامة والبحر واستملاكها بمشروع خاص»، مطالبين بـ«عدم منح المرتكبين شهادة براءة على الأقل على هذه الارتكابات التاريخية».
يومها تجاوب مرسيل خليفة (بمساعدة الصديق فواز طرابلسي) وغالبية الجمعيات مع مطلب المقاطعة مع تجاوب جزئي ومقبول من وزير البيئة (أكرم شهيب) الذي طالب بنقل المهرجان الى مكان آخر (أمام قلعة المسيلحة) لعدم استفزاز البيئيين المعارضين، واستمر الآخرون بعد أن خذلونا. وإذ تلقينا الرد على بياننا من دون نشره في جريدة «النهار»، تفاجأنا أن جريدة «السفير» ايضاً، (التي كنت أكتب فيها مراجعات كتب في ملحقها الثقافي) لم تنشر البيان ولا الردّ!
يومها (22 تموز 1997) اتصلت غاضباً ومعاتباً صديقي الراحل جوزف سماحة، ووجدت أنه لم يكن مطلعاً على البيان، وبعد أن استعلم عن الموضوع، أوضح لي ان هناك من اتصل من «النهار» بإدارة «السفير» طالباً عدم نشر البيان، لان فيه انتقادات لـ «النهار»، معتبرين انه لا يجوز انتقاد جريدة عبر جريدة زميلة، مع أن البيان لم يكن يشير بالاسم الى جريدة «النهار»!

أول صفحة بيئية العام 1998


لم أقتنع بتبريرات صديقي جوزف (من شدة حماستي آنذاك)، الا أننا استفدنا من طرح هذا الموضوع ففتحنا نقاشاً عميقاً حول قضايا البيئة بوصفها قضايا فكرية وسياسية واقتصادية وحياتية بامتياز يُفترض مقاربتها بعمق وشمولية والتزام... وذلك على خلفية مناقشة مقالة كنت قد كتبتها تحت عنوان «في فلسفة السياسة البيئية الجديدة: نحو البحث عن توجه جديد لتطور المجتمع». وقد نتج عن هذا السجال، أن عرض علي جوزف فكرة أن أتقدّم بنص مطبوع لمشروع إنشاء صفحة اسبوعية في «السفير»، أحدد فيه رؤيتي والأهداف والأبواب التي اقترحها.
كنا قد أصدرنا قبل أربعة او خمسة أعوام مجلة «منبر البيئة» وهي المطبوعة الدورية الأولى المتخصصة بالبيئة في لبنان (التي كنت رئيس تحريرها)، وقد طلب مني سماحة (الذي كان قد اطلع على بعض أعدادها بإعجاب سابقاً)، أن أحضر معي منها بعض النسخ الى ناشر «السفير» طلال سلمان، لكي يأخذ فكرة عن كيفية مقاربتي للقضايا البيئية، مع عرضي لمضمون وتوجّه الصفحة والأبواب التي اقترحها. وهكذا كان، أعددت، بعد مدة غير قصيرة نسبياً، ورقة من صفحة ونصف كتبتها تحت عنوان «لماذا صفحة بيئة؟»، حددت فيها الهدف منها والأبواب والرؤية العامة لهذه الصفحة المتخصصة، مظهراً بشكل واضح انها صفحة هادفة وملتزمة بقضية محددة وثابتة هي البيئة وحمايتها بكل أبعادها، بعد توضيح ضرورة تمييز الموضوع البيئي المتعلق بالحياة ونوعيتها وديمومتها وبالمستقبل (مستقبل الموارد والأجيال الآتية التي لها حق بالاستفادة من هذه الموارد) الذي يختلف عن التراث الميت والمتعلق بالماضي، كما كان دارجاً آنذاك في الإعلام.
بعد أن أخذت موافقة طلال سلمان وتبنيه حرفياً لمضمون الورقة، اتفقنا على اصدار صفحة أسبوعية كل سبت (بعد ذلك أصبحت كل ثلاثاء)، وفيها افتتاحية ثابتة لي هي كناية عن عمود - موقف يحمل ترويسة تحت عنوان دائم («على الحافة») مع تحقيق رئيسي وزوايا ثابتة. وقد نشرت ورقة المقترح كما هي والعنوان نفسه المذكور في اول صفحة صدرت بتاريخ أول آب 1998 (واستمرت حتى اليوم موعد صدور آخر صفحة). أما ترويسة «على الحافة» فقد أصبحت بعد ذلك عنوان كتابي الأول عن فلسفة البيئة الذي صدر العام 2001 عن «المركز الثقافي العربي» (بيروت والدار البيضاء في المغرب)، وكان الكتاب الأول في العالم العربي عن فلسفة البيئة.

مهمات وصعوبات


خالفت صفحة البيئة الكثير من المعتقدات والأوهام التي كانت سائدة، وحاربت الكثير من الأفكار التي كانت (ولا تزال) مسيطرة في العصر ومتسبّبة بتدمير البيئة، بطرحها أفكاراً ومقولات وبدائل جديدة وغير شعبية، أو «شعبوية» على الأصح. ويبدو أن هذه المهمة كانت الأصعب في مسيرتها طوال تلك السنوات، أصعب بما لا يقاس بنقد السياسات والسياسيين.
لم يكن سهلاً نقد أفكار مثل «التنمية» والنمو، او أفكار مثل «التقدم» و «الرفاهية»... بالإضافة الى نقد الافكار الليبرالية التي ربطت بين حرية التفكير والمعتقد وحرية الاستثمار والتصنيع والتجارة والتسويق والامتلاك والاقتناء والاستهلاك... مما جعل العالم يطفو بنفاياته وملوثاته في أنواعها واشكالها كافة، من دون ضوابط قانونية او أخلاقية. لذلك نوّعت الصفحة في مواضيعها بين الفلسفي والعملي والتجريبي وربطت بين القطاعات وطرحت البدائل في أكثر من اتجاه... في وقت عجزت الدولة والوزارة المعنية عن إنتاج وتبني استراتيجية متكاملة للتنمية المستدامة، تربط بين قطاعات مثل إدارة الغابات وحمايتها وقطاعي الطاقة والمياه بالإضافة الى ضرورة تنظيم قطاع النقل للتخفيف من تلوث الهواء وتشجيع السياحة الريفية بدلاً من تلك التقليدية بالإضافة الى دعم الزراعة العضوية بدلاً من التقليدية... كما عجز البيئيون عن ربط الهدر البيئي بالهدر الاقتصادي وعن الربط بين تهديد الموارد والبيئة وبين تهديد أسس الحياة.

أهم القضايا


أما أهم القضايا التي تناولتها صفحة البيئة، بالإضافة الى الأبواب الثابتة التثقيفية، فهي قضية عدم تنظيم قطاع المقالع والكسارات والمرامل التي تسببت بتشويه آلاف الهكتارات وتهربت من دفع الرسوم الواجبة لخزينة الدولة. وكانت ذروة المقالات والتحقيقات حول هذا الملف، نشر مسح شامل بكل المقالع والكسارات والمرامل المخالفة في تحقيق واحد وعلى كل الأراضي اللبـــنانية، وتبـــيان وضعها القانوني بالإضافة الى حجم التشـــويه والضرر وحجم الهدر والتهرب من دفع الرسوم اللازمة والمقدر بمليارات الدولارات. وكانت خلفية المقالات والتحقيقات التي كتبت حول هذا الملف تتلخص بضـــرورة وضع قانون ومراســيم تنظيمية لإدارة هذا القطاع وتشريعه ومراقبته... ولم يتحقق هذا الهــدف حتى لحظة كتابة هذه السطور.
كما فتحت الصفحة ملف النفايات مراراً وتكراراً مركزة على مبادئ أساسية لإدارة هذا الملف متمثلة بالتخفيف والفرز واستبدال الخطة الطارئة التي وضعت العام 1997 بخطة استراتيجية دائمة تتم ترجمتها بقوانين ومراسيم تنظيمية، والتي لم تتحقق حتى الآن... لا بل انتقلنا من السيئ الى الأسوأ، ومن كارثة الى أخرى.
بالإضافة الى القضايا المتعلقة بإدارة حرائق الغابات التي لم تنجح أي ادارة في وضع خطة معقولة لها وقضايا تنظيم الصيد البري الذي ترك قرار المنع الكلي من دون تطبيق حتى تمّ تهديد العديد من الطيور بالانقراض. بالإضافة الى قضايا تهديد التنوع البيولوجي عامة وتلوّث الهواء والمياه والتربة والزراعة وتهديد الأمن الغذائي الى حدود لا رجوع عنها ولا إمكانيات لمعالجتها... بعد أن سيطرت المافيات على كل القطاعات وتراجع دور الدولة الى أدنى الحدود وانقرض «رجال الدولة»، كأنواع كانت نادرة أصلاً.
ولا حـــاجة الى تعداد المزيــد من القضايا التي أثارتها صفحة «بيـــئة» في «السفير» بوجـود أرشيف ضخم طوال ما يقارب 18 عاماً.


شهادة


كان جوزف سماحة متحمساً جداً لصفحة «بيئة»، بالإضافة الى صفحة معنية بقضايا الشباب وأخرى تحت عنوان «صوت وصورة» بالإضافة الى حماسته لاحقاً لصفحة العلوم. وكان يعتبر أن أهم مميزات الصحف الكبرى، ولكي تصنف أنها صحف كبرى، يفترض ان يكون فيها صفحات متخصصة او تخصصية (والأهم ان يكون لها مواعيد صدور ثابتة وليست ظرفية) وفيها صحافيون متخصصون بشكل دائم لأنواع كهذه من القضايا التي توقع ان يكون لها تأثيرات حاسمة في مستقبل الأنظمة وحياة الشعوب والصحف.
وقد اعتبر الكثير من المتابعين آنذاك أن سماحة كان المثال لمواصفات رئيس تحرير صحيفة الذي كان عليه أن يكون ملماً بكل القضايا وان يكون متابعاً ولديه رؤية بعيدة المدى لكل ما له علاقة بهذه المهنة وقضاياها وكيفية تطورها...الخ.
الا ان الشهادة الثانية التي يفترض تسجيلها، من هذه التجربة في «السفير»، هي دعم طلال سلمان لهذه الصفحة طوال كل تلك السنوات، ورده على كل المراجعات التي كانت تأتي من كل حدب وصوب من دون مراجعتي، خاصة أن تلك الصفحة لم تعرف الا لغة النقد وفي كل اتجاه وقد طالت الانتقادات الكثير ممن كانوا يصنفون في خانة «أصدقاء الجريدة». ولم تخرج هنادي سلمان ايضاً عن الخط الداعم ذاته.
قدر صفحة «بيئة» أن تقلّد عـــادات النسور بأن تكون في الذروة دائماً.


المصدر: السفير
 

اخترنا لكم

قرّاء غدي نيوز يتصفّحون الآن