"رفاهية" غير مريحة

Ghadi news

Tuesday, July 19, 2011

*حبيب معلوف

بين الأفكار المسيطرة على العصر، "الرفاهية". هي الكلمة السحرية للفكر الليبرالي ووعوده. إلا أننا بالرغم من ذلك، لم نعد نعرف ماهية هذه الرفاهية ولا كيفية قياسها ورصدها.
ارتبط مفهوم الرفاهية مع الفكر الليبرالي القائم على تحرير الفرد والأسواق وزيادة الإنتاجية والاستهلاك. كما نشأت بشكل بارز مع الثورة الصناعية ودخول التقنيات في ميدان العمل مما خفف من عمل الإنسان المضني وساهم في رفاهه. فالرفاهية في الأصل، تعني أن تقوم الآلات بعملنا فنستريح. وعدم العناء والراحة تعني الرفاهية. او على الأصح، الوصول الى الأشياء والأهداف والغايات من دون عناء، "رفاهية".
وإذا سلمنا جدلا بهذه المقولة، التي لا تزال تخضع لمناقشات معمقة، يبقى السؤال: هل الاستعانة بالآلات وتحولنا إلى "مجتمع الاستهلاك"، قد امن لنا الرفاهية فعلا؟
ارتبط مفهوم الرفاهية الحديث باقتناء الأدوات والسلع والآلات واستهلاكها أكثر من ارتباطه بأي عامل طبيعي آخر. ولعل أهم مظاهر الرفاهية اليوم، هي الانتقال للعيش في بيوت مستقلة مفروشة ومكيفة وتؤمن فيه المياه الباردة والساخنة والإنارة والغسيل والجلي وتشغيل الفرن وتسخين الطعام... بكبسة زر. بالإضافة إلى الانتقال من مكان إلى آخر بسيارة خاصة والاستعانة بشتى أنواع الآلات للاتصال والتواصل وتحصيل المعرفة والقيام بمعظم متطلبات العصر.
بغض النظر عن الثمن البيئي للرفاهية الحديثة المكلف جدا لناحية تخريب البيئة واستنزاف الموارد الطبيعية وزيادة النفايات وتهديد أسس الحياة، الذي طالما تناولناه... هل يعني ذلك ان عالم ما قبل الثورة الصناعية، لم يكن يعرف الرفاهية مطلقا؟
بالطبع كان يعرف غير نوع من الرفاهية، او على الأصح، كان يعرف غير نوع من الراحة.
صحيح ان الأعمال اليدوية (التي تم استبدالها اليوم بعمل الآلات) كانت مضنية، لكن نوع الراحة بعد طول عناء كان أعمق. فمن يتعب جسده ينام ملء جفونه. وتعب الإنتاج غير تعب الاستهلاك. وقلق العمل اليدوي غير قلق السوق والمنافسة وقلق الاستحواذ على جديد السلع التي تتغير باستمرار. فإذا كان عنوان الرفاهية زيادة القدرة على الاستهلاك، وعنوان الاقتصاد زيادة القدرة على الإنتاجية وزيادة السلع ضمن اقتصاد السوق الذي عليه ان لا يتوقف عن المنافسة وعن التجديد... فعلى المستهلك ان يعمل أكثر وأكثر لكي يستطيع ان يستهلك أكثر وأكثر. وزيادة العمل تعطل مفاعيل الرفاهية، التي قيل في الأساس ان احد أهم معاييرها الراحة وقلة العمل!
وينسى معظم المستهلكين الذين يعيشون في مجتمع الاستهلاك، انهم يعيشون أيضا في "مجتمع الأعطال" والوقوف على شبابيك "خدمات ما بعد البيع" او امام الباعة الذين ينصحون بشراء الجديد بدل تصليح القديم، ويحتارون في كيفية التخلص من الأدوات القديمة، كلما تطورت وأشعرتهم الإعلانات التي تحتل الشاشات ووسطيات الطرق والمشهد العام... إنهم أصبحوا خارج العصر! ومن لا يشعر بالدوار أمام هذه الدوامة الاستهلاكية؟ وأمام هذا النهم الاستهلاكي الذي لا يمكن إشباعه؟
ولعل اكبر برهان على ضياع معنى الرفاهية حين نقف في سيارتنا الخاصة، المستقلة، الجديدة، الجميلة، المريحة والمكيفة... في زحمة سير خانقة! مع غض النظر أيضا عن الكلفة والانبعاثات والآثار البيئية والصحية.
بحسب دراسة حديثة أعدتها الغرفة التجارية الصناعية في الرياض ونشرتها جريدة "الحياة" في 7/7/2001 ، ينفق السعوديون 6 بلايين ريَال (نحو مليار ونصف مليار دولار أميركي) سنويا على الترفيه في فنادق ومنتجعات سياحية داخلية. ولكن لا نعرف كم عوضت هذه الإمكانيات العالية للترفيه عن تقييد حرية قيادة السيارات عند النساء، على سبيل المثال!؟
من الخطأ لا بل من الوهم ان يقوم نقد مفهوم الرفاهية، مهما كان لها من انعكاسات سلبية، على نقد التكنولوجيا ونظام تطوير الأدوات التي ساهمت بالرفاهية. لعل المشكلة في المبالغة في الاعتماد على الآلات، الى حد تحويل الإنسان نفسه الى آلة أيضا، وتعطيل قدرته على التقييم والنقد والمراجعة! فلطالما كانت الأدوات رفيقة الإنسان الدائمة من الحجر الى العصا الى الدولاب. وسرعان ما تحولت هذه الأدوات الى آلات، ابتعد معها الإنسان عن الطبيعة بقدر ما ابتعد عن العلاقات الإنسانية أيضا. وهكذا اختلفت انواع الرفاهية باختلاف انواع الأدوات. ابتعد الإنسان الحديث عن الرفاهية المؤنسنة الى الرفاهية المؤللة. الا ان ثمن هذا التحول بات غاليا جدا، وقد بدأ يطيح بكل المكتسبات التي حققتها التقنيات التي لم تعد شيئاً تقنياً، بقدر ما أصبحت أدوات سيطرة ظالمة. السيطرة على الأسواق والشعوب، والسيطرة على إرادة الإنسان وحريته في التفكير وحسن التدبير والشعور بالاكتفاء والرضى.
اما ان تعمل الآلات بنظام ابتعد كثيرا عن سيطرة اليد التي اخترعتها او طورتها... فأمر ينطوي على مخاطر إضافية لا تطيح بمكتسبات الرفاهية فقط، بل بديمومة الحياة أيضا، مما يطرح علامات استفهام جديدة حول المعنى، والحاجة الى فلسفة جديدة، بيئية وإنسانية في جوهرها، أكثر تواضعا وعمقا وأقل ادّعاء بالشعور بالرفاهية والسعادة بمجرد تغيير السلع.

*رئيس حزب البيئة اللبناني
جريدة "السفير" 19-7-2011
 

اخترنا لكم

قرّاء غدي نيوز يتصفّحون الآن