عدّوسيّة... جنّة الأرض وعبق التاريخ في قاع بحرها

wowslider.com by WOWSlider.com v8.6

Tuesday, August 26, 2014

دعوة لإنشاء محميّة طبيعيّة على شاطئها
عدّوسيّة... جنّة الأرض وعبق التاريخ في قاع بحرها

"غدي نيوز" – بقلم ميشال الشّمّاعي

على مسافة 54 كلم جنوب العاصمة بيروت، وعلى مساحة 4.40 كلم2 من البساتين المكحّلة باللون الأخضر، وعلى الساحل الأزرق تقع بلدة "عدّوسيّة" التي تربض على تلّة خضراء تشرف على شاطئ الزّهراني وعلى ارتفاع لا يتعدّى المئة قدم عن سطح البحر.
ارتبط اسم هذه القرية بزراعة العدس كون تربتها خصبة وغنيّة بالمياه الجوفيّة، ويرجع أيضا إلى الصفة "عُدُوس" أي قويّ، وترتبط هذه المسألة بشخصيّة جنوبيّة معروفة وهو المدعو أدهم خنجر من قرية المروانية التي تبعد بضعة كيلومترات عن العدوسيّة، وهو الذي أطلق النار على الجنرال غورو.
عرفت تقدّما ديموغرافيا كوّن مجموع القرية التي يصل عدد سكّانها اليوم الى الألف نسمة تقريبًا، منهم 750 مسجّلين على لوائح الشطب.
تضمّ عدّوسيّة عائلات مختلفة يعود أصلها إلى العاصمة بيروت، حيث شكّل آل الطيّار العدد الأكبر فيها وأساسهم يعود إلى منطقة الشيّاح في قضاء بعبدا، فكانت بالنّسبة اليهم مركزا زراعيّا فضلا عن آل الحاج وكرم ومتري ومزهر ومنصور ويوسف، والشباب، وطنّوس، وابراهيم، وداغر، وعيد، ونجم، وعون، وبوعيسى، وسمعان، ونمور، واسكندر، وجرجس، وداوود، كما تجدر الإشارة إلى توافد عدد كبير من سكّان قرية كفرفالوس التي تقع في قضاء جزّين، وذلك بعد فصلها عن الأراضي المحرّرة في لبنان، حيث كانت هذه القرية خطّ التّماس بين الاحتلال الاسرائيلي والجيش اللبناني، فنزح معظم عائلاتها إما إلى العاصمة وإما إلى جزين وتوجّه قسم منهم إلى العدّوسيّة حيث باتوا اليوم يشكّلون أساس سكّانها. وأبرز هذه العائلات آل لبّس وآل أيّوب وآل الشمّاعي. وهنالك بعض الشيعة من آل حلال ووزني مسجّلين على لوائح الشطب لكنّهم يسكنون في القرى الشيعيّة المتاخمة.
في العدّوسيّة مدرسة رسميّة تمّ تشييد بناء حديث لها على أعلى تلة في القرية وهي تضم اليوم أكثر من ثلاثمئة طالب، والملفت أنّ معظم أبناء القرية مسجّلون في المدرسة حيث يشكّل النسبة الكبرى من أهلها الجسم التعليمي فيها. ويتنافس أهالي القرى المجاورة على تسجيل أبنائهم في مدرسة القرية بسبب المستوى التعليمي العالي الذي يقدّمه الجسم التربوي فيها.
وفي وسط القرية ملعب كبير شهد على مباريات رياضيّة ضخمة ومهرجانات فنيّة، فضلا عن بناء لمركز بلديّة القرية المصقول بالحجر الأصفر المستخرج من مقالع المنطقة. وبجوار المبنى البلدي كنيسة مار يوسف للموارنة التي تتبع مطرانية صور، والملفت أنّ أهالي القرية ينقسمون بين كاثوليك وموارنة من هنا جرت العادة على أن يقام قدّاس للروم الملكيين الكاثوليك كل آخر أحد من الشهر يحضره كلّ أبناء القرية.
وفي القرية عدد لا بأس به من الجمعيّات أبرزها النادي الثقافي الرياضي الذي ينظم دورات رياضيّة ومهرجانات دوريّة، كذلك هنالك جمعيّتي JEC  & MIDAD وهما جمعيّتان تعنيان بالتربية الدينيّة للشبيبة وللأطفال.
وهنالك مستوصف بإمكانيّات جدّ متواضعة يؤمّن بعض الخدمات لأهل القرية.
أمّا بالنّسبة إلى الزراعة فهي تشكّل المورد الرّئيسي لمعظم اهالي القرية حيث تنشط فيها زراعة الورد بمختلف أنواعه في البيوت البلاستيكيّة فيشكّل انتاج عدّوسيّة من الورد ما نسبته 60 بالمئة من إنتاج لبنان، وينافس الجودة العالميّة.
كذلك أشجار الحمضيّات بأنواعها المختلفة من ليمون وحامض وغيرها. فضلا عن زراعة حديثة جدا استقدمت اليها منذ أقل من عشر سنوات وهي زراعة أشجار الأفوكا والقشطة وهي تنتشر بشكل لافت في بساتين العدوسيّة اليوم.
كذلك في العدّوسيّة بعض المهن لا سيّما الحدادة والبويا حيث يوجد أكثر من ثلاثة كاراجات فضلا عن مصنع لصناعة المصاعد.

عدّوسيّة في البحر

كلّ ذلك من دون ان نلتفت الى البحر وما يشكّله بالنسّبة الى أهل القرية. فعلى الشاطئ تلّ ارتبط اسمه بموقع ونوعيّة الشاطئ هناك حيث عرف بشاطئ: براك التلّ، وذلك  لكثرة برك المياه العذبة عليه.
ولقد أثبتت أكثر من بعثة للآثار هذه الحقيقة فضلا عن المدينة الغارقة موضوع  بحثنا.  ومن "البيت الأزرق" على شاطئ بلدة الصرفند الجنوبية الذي يتخذه نقيب الغواصين المحترفين محمدالسارجي منطلقاً لاستكشافاته البحرية كانت بداية الرحلة، حيث يخبرنا أنّ اكتشاف مدينة "يرموتا" تمّ في نيسان (أبريل) 2001 بعد عامين من عمليات الغوص والتوثيق. وتمّ تحديد الموقع الذي بدأت فيه أعمال الغوص في عام 1999 بناء على دراسة تاريخية قام بها الباحث في التاريخ القديم الدكتور يوسف الحوراني الذي تولى أيضاً الدراسات التاريخية التي أدت إلى اكتشاف مدينة صيدون الفينيقية في قاع بحر صيدا في عام 1999.
واختيار الموقع كان من الإنجازات المهمة خصوصاً أن ما تبقى من مراجع تاريخية لم يقدم أية دلالات جغرافية مباشرة على مكان المدينة التي اختفى اسمها من الذكر كلياً، ولولا وجود بعض المراجع التاريخية التي وردت في رسائل تل العمارنة (حوالي 1370 قبل الميلاد) لما علمنا بوجودها في الأساس. ففي هذه الرسائل التي كان يتبادلها حاكم مدينة جبيل آنذاك مع فرعون مصر يتكرر اسم المدينة ما يدل على أهميتها كمركز هام للمصريين.
ومن الواضح أن موقع المدينة كان إلى الجنوب من بيروت إذ أن حاكم جبيل يبلغ الفرعون المصري عن منع حاكم بيروت سفنه من الوصول إلى يرموتا. وهذا دليل أيضاً على أن يرموتا كانت تقع على الشاطئ ويصل اليها الناس عبر السفن.
والمنطقة التي حددها الدكتور الحوراني في الزهراني هي تلك المعروفة بـ "تل البراك" وتقع جنوب مصب نهر الزهراني. وهي غنية بآثارها الإنشائية الباقية إلى يومنا هذا. وما تبقى من آثار تحت سطح الماء يقع مقابل "تل البراك" بالتحديد، أي قرية العدّوسيّة اليوم، وكذلك إلى الشمال وصولاً إلى الزهراني وإلى الجنوب وصولاً إلى الصرفند.
ومن الضروري الإشارة إلى أنه كانت هناك جزيرة تفصل بين المنطقتين، مساحتها حوالى الألفين متر مربع. وقد تحولت الآن إلى رصيف لميناء الصيادين في الصرفند. وتم هذا التحويل أثناء الحرب الأهلية اللبنانية بسبب حاجة الصيادين آنذاك إلى ميناء واسع تكون مياهه عميقة نسبياً.
المهم أن هذه الجزيرة كانت موقعاً سياحياً مهماً لأبناء المنطقة الذين كانوا يتوافدون إليها للاستجمام والصيد والسباحة، خصوصاً أن عمق المياه الواقعة بينها وبين الشاطئ الذي كان يبعد حوالى الثلاثين متراً عنها، يتفاوت ما بين الستة إلى الثمانية أمتار. وكانت المياه الصافية والنظيفة تسمح برؤية الصخور الضخمة الموجودة في قاع البحر.
أعلن رئيس نقابة الغواصين المحترفين في لبنان محمد السارجي عن اكتشاف مدينة اثرية غارقة تحت سطح البحر على الشاطئ ما بين صيدا وصور، في جنوب لبنان، يعود تاريخها الى الالف الثاني قبل الميلاد تدعى "يرموتا".
واوضح السارجي الذي كان يتحدث في مؤتمر عقده بحضور المؤرخ الدكتور يوسف الحوراني والمهندسة هنيدة الخالدي، انه نتيجة لعمليات الغطس التي قام بها، اكتشف العديد من منشآت المدينة على اعماق تتراوح بين 3 و17 مترا، ومنها الشوارع والطرقات والموانئ والسناسل (الارصفة) والساحات التي تتوسطها تماثيل تدل على حضارة عريقة.
واوضح "ان حجارة الميناءين والسنسولين مرصوفة بعناية وتشبه حجارة ميناء صور الشمالي، كذلك هناك درج حجري يتجه صعودا نحو بناء ضخم". واشار الى وجود برك مبنية على نفس طراز برك منطقة رأس العين في صور، ما زالت صالحة من زمن الملك حيرام.
واردف السارجي: "من المؤكد ان الاسمنت او مواد البناء المستعملة بحاجة الى تحليل عالمي لثباته وقدرته على التحمل"، مشيرا الى ان الاسمنت المعروف في ايامنا هذه لا يتحمل اكثر من 70 او 80 سنة قبل ان يبدأ بالتفكك.

يرموتا المدينة الغارقة

في السجلات الفرعونية القديمة ذكر متكرر لمدينة مهمة على الشاطيء اللبناني باسم (يرموتا) أو (عرموتا). ويتداول صيادو الأسماك تسمية لسمك يكثر وجوده على أحد الشواطيء هو (العرموط).
في القرن الرابع عشر قبل الميلاد كانت مصر الفرعونية تسود بلاد جوارها الآسيوية المتعددة القيادات، في لبنان وسوريا وفلسطين. وكان الكاشيون يسيطرون في الشرق على (بابل) التي غيروا اسمها إلى (كاردونياش). وفي الشمال كان الحثيون قد بدأوا بالبروز في المجال الحربي، بينما كان الحوريون في الشمال الشرقي قوة منافسة لمصر، ولهم وجود كثيف في سوريا وفلسطين ولبنان.
ولكي تضمن مصر مداخيلها الاقتصادية من الضرائب على المنطقة أنشأت مراكز إدارية لتتلقى الضرائب وتنظم علاقاتها مع دويلات المدن ولحماية طرق التجارة بين وادي النيل وأرض الرافدين.
أما العلاقات مع القوى الحربية في الشرق والشمال فقد عمد الفراعنة إلى تنظيمها بإنشاء تحالفات تقوم على المصاهرة والروابط العائلية، حيث كان الملوك يتبادلون أخواتهم وبناتهم كزوجات في البلاط الملكي، كما يرد ذكر ذلك في رسائل (تل العمارنة)، وهي السجلات التاريخية الأغنى لتلك الحقبة التاريخية المثيرة.
وخلال هذا الوضع السياسي، وعندما حدث تراخ للحكم المصري في عهد الفرعون (أخن أتن) على الأرجح، خطر لزعيم أموري يدعى (عبد عشرتا) أن ينشيء دولة مستقلة تجمع دويلات المدن والقبائل المنتشرة في المنطقة تحت قيادة واحدة، على غرار الدول المجاورة في الشرق والشمال.
أخذ عبد عشرتا بمهاجمة المدن واحتلالها وإقامة حكام عليها موالين له، بينما أخذ حكام هذه المدن الذين ألفوا الحكم المصري يكتبون للفرعون شاكين له تجاوزات هذا (الأموري) وأطماعه، طالبين منه النجدة للمحافظة على مدنهم وإبقائها مخلصة لمصر. وقد وجدت هذه الرسائل محفوظة كأرشيف سياسي في (تل العمارنة) في مصر العليا، حيث بنى (أخن أتن) عاصمته. وتعتبر هذه الرسائل المرجع الأساسي لمعرفة المدن التي كانت عامرة في تلك الحقبة في أرض لبنان وفلسطين وبعض سوريا.
تبرز في هذه الرسائل مدينتان كانتا مركزي ادارة للحكم المصري في المنطقة. الأولى هي مدينة (مسيرا) على حدود لبنان الشمالية، والثانية - وهي ما يعنينا هنا - تدعى (يرموتا) في الرسائل، وقد اختلف الباحثون في تحديد موقعها. ونعرف من الرسائل انها كانت منيعة وثرية وذات نظام مالي مصرفي، حيث كان أبناء مدينة جبيل يودعون أموالهم فيها، أي أنها كانت مهمة وتستحق البحث لتحديد موقعها.
افترض بعض الاختصاصيين بالتاريخ العبري أنها (يرموتا) المذكورة في جغرافية يشوع (21:29) ومن هؤلاء كان الباحث الأميركي (أولبرايت). ولكن في نصوص (اللعان) المصرية العائدة للقرنين التاسع عشر والثامن عشر قبل الميلاد يرد ذكر بلدتين باسم يرموتا إحداهما باسم (يرموتا إزنو). كما ورد في نص لرعمسيس الثاني، في القرن الثالث عشر قبل الميلاد اسم جبل باسم (جبل يرموتا)، والقرائن ترجح أن يكون هذا الجبل باسم (عرمتا) وهو إلى الشرق من مدينة صيدا، وكانت تقيم فيه قبائل معارضة للحكم المصري في أرض (جاهي) أي لبنان كما كانت تعرف آنذاك.
وتبدو التسمية واسعة الاستعمال في المنطقة، وهي في الأساس اسم لإله يدعى (عرمتا) ورد ذكره باليونانية في دير القلعة قرب بيروت، كما يذكر ذلك الأب (هنري لامنس) في كتابه (تسريح الأبصار فيما يحتوي لبنان من آثار). وقد استشهد بقرية (عرمتا) التي ذكرناها في جبل الريحان قرب صيدا، وقرية أخرى بذات الاسم في جبل النصيرية قرب اللاذقية، كما أنه ربط ذلك بتسمية (رمطون) الخربة الواقعة قرب نهر الدامور. ونضيف نحن هنا تسمية (الرمثا) في الأردن ومزرعة (الرمثا) التي برز اسمها أخيرا على السفح الجنوبي لجبل (حرمون). أما (الياء) الحرف الأول من الاسم، فهو مثل حرف الياء في اسم (نهر الأردن) حيث يرد الاسم (يردن) في النصوص القديمة كما في النصوص اللاتينية والأوربية المعاصرة اليوم. وقد ورد اسمها (رموتا) في الرسالة 85 من تل العمارنة.
وهكذا يكون علينا الاستدلال على موقع مدينتنا المهمة التي كانت عامرة في الألف الثاني قبل الميلاد من خلال القرائن المتوافرة لنا في اللغة والجغرافيا والآثار.

في النصوص الكلاسيكية

يذكر الجغرافي الإغريقي (سترابو) مدينة بين صور وصيدا باسم (أورنيتو)، كما ذكرها كذلك العالم الروماني (بليني الأكبر) بعد سترابو بقليل، أي في القرن الأول للميلاد. والاسم باليونانية يعني (العصافير). ولغياب التسميات اليونانية عن مدن الساحل اللبناني، لكونها جميعا أقدم من زمن الإغريق، نفترض أن الاسم هو تحريف لأورميتو ليس إلا. وقد جرى تحريفه لإعطائه مدلولا يونانيا. ونجد لدى سترابو الكثير من هذه التحريفات في الأسماء، ونرجح لغويا أن يكون اسم سمك (العرموط) في لبنان هو نسبة لهذه المدينة البحرية القديمة لكون هذا الاسم مستعملا في لبنان وحده، كما يبدو وهو الأكثر ألفة للمنطقة كما يقول الصيادون.

في رسائل تل العمارنة

- في الرسالة رقم 68  بالفرنسة يخبر (رب إدي) الفرعون أنه يحصل على المؤمن لمدينته جبيل من يرموتا.
- وفي الرسالة رقم 75 يخبره أن أهل جبيل يبيعون أبناءهم وبناتهم وأخشاب بيوتهم في يرموتا لشراء المؤمن كي يبقوا أحياء.
- وفي الرسالة 81 يكرر الخبر عن بيع الأبناء والبنات لأن حقوله بقيت من دون زرع بسبب الحرب، كالزوجة من دون زوج.
- وفي الرسالة 82 يذكر الفرعون بأمره إلى يرموتا لتزويده بالثياب والمؤن والذهب بواسطة البحر.
- وفي الرسالة 85 يطالب بتزويده بحبوب تنتجها بلاد يرموتا، وبأن يأمر شخصا يدعى (ينحامو) بنقل النقود الموجودة في يرموتا لأبناء جبيل.
- وفي الرسالة 86 يتكرر طلب الحبوب من يرموتا من أجل الغذاء.
- وفي الرسالة 90 يتكرر ذكر بيع الناس أبنائهم وبناتهم في يرموتا.
- وفي الرسالة 105 يذكر حاكم جبيل أن (يبح هدا) (في بيروت) يمنع مراكبه من الوصول إلى يرموتا، بينما لا يستطيع إرسالها إلى (سميرا) بسبب اعتراض مراكب (أرواد). وهذه الرسالة تحدد موقع يرموتا إلى الجنوب من بيروت، وليس إلى الشمال باتجاه أرواد.
- وفي الرسالة 112 يذكر أن كل ما يملكه قد سلبوه منه وباعوه في يرموتا من أجل الغذاء.
-ـ وفي الرسالة رقم 114 يذكر أن فلاحيه كانوا في الماضي يحصلون على حبوب غذائهم من يرموتا. ولكن (يبح هدا) (البيروتي) يمنعهم حاليا من الذهاب إلى هناك. وهذه الرسالة ترجح لنا أنهم كانوا يذهبون سيرا مع دوابهم إلى يرموتا لنقل الحبوب.
- وفي الرسالة 125 يذكر الفرعون بعادته في إرسال المؤن من يرموتا إلى الحامية المصرية التي معه في جبيل.
وهكذا نجد هذه الرسائل وغيرها تشير إلى موقع يرموتا وأهميتها السياسية في تلك الحقبة المضطربة.

غياب مدينة

لم يرد ذكر لمدينة ساحلية عامرة باسم (يرموتا) في نصوص آشور وبابل خلال الألف الأول قبل الميلاد. وهذا يعني أن المدينة كانت قد فقدت ازدهارها أو فقدت جزءا مهما منها في هذه الحقبة، وهذا الافتراض الأخير هو الأرجح.
ولعل أبرز ما بقي من هذه المدينة القديمة هو برك المياه التي أجمع الباحثون، وفي مقدمتهم الفرنسي (رينان) في القرن التاسع عشر،على أنها تعود لزمن برك (رأس العين) إلى الجنوب من صور، وهذه بدورها تعود إلى زمن حيرام ملك صور، أي إلى القرن العاشر قبل الميلاد، وهي أقدم إنشاءات مائية للفينيقيين القدماء على الشاطيء اللبناني.

البحث والكشف

بعد اكتشاف آثار العمران تحت المياه في جوار مدينة صيدا ترجح  أن المدن الساحلية التي توقف ذكرها على أقلام المؤرخين، منذ أواسط الألف الأول قبل الميلاد، إنما غدت في قلب البحر. ومن هذه المدن كانت (يرموتا) الفرعونية التي غاب ذكرها قبل هذا الزمن بقرون. ومثل هذا الغياب التدريجي وفي فترات متباعدة لمدن يجعلنا قرييين من الاقتناع بأن الشاطيء اللبناني برمته آخذ بالغوص البطيء في البحر، وليس بفعل زلزال سنة 143 ق.م وحده كما يتفق معظم الباحثين.
تبنى نقيب الغطاسين في لبنان محمد السارجي هذه الملاحظات وقام بجولة تحت الماء مع آلة التصوير مقابل التل الأثري والبرك المجاورة له. ولم يجد عناء كبيرا في التقاط مجموعة من الصور لشوارع مبلطة ولأبنية مهدمة منتشرة على مساحات واسعة، وبينها ما يرجح أنه ساحات عامة تحتوي على تماثيل حيوانات كانت وفق العقائد الفرعونية، مقدسة. ومن هذه التماثيل تمثال للقطة (باسته) التي تعبدت لها الأسرة الفرعونية الثانية والعشرون، أي قرب الزمن الذي برزت فيه (يرموتا) كقاعدة فرعونية في المنطقة. والتمثال الثاني الواضح المعالم هو رأس حيوان طويل العنق كالجمل، وطول عنقه يقربه من حيوان الاله (ست) رمز عبادة الهكسوس في مصر. وهذا الرمز استمر التعبد له هناك بعد خروج الهكسوس وزوال نفوذهم. وقد يكون وجوده على الشاطئ اللبناني مفتاحا للغز معقد هو هوية الهكسوس وبلادهم الأصلية.
وتوجد في الموقع كسرات تماثيل عديدة ليس من السهل تعيين هويتها قبل ترميمها. والملاحظة المهمة هي أن الكسرات والشظايا والقواعد المتعددة الأجزاء لهذه التماثيل لا تزال متجاورة، مما يعني أنها لم تكن ساقطة من سفن أو ملقاة عمدا في الموقع بل هي كانت منصوبة هناك وأن المياه غمرتها دون عنف زلزالي كبير. وكذلك يمكن القول عن الطرقات المبلطة التي حافظت على تجاور حجارتها المرصوفة على مدى عشرات الأمتار، وعلى بعد أكثر من مائتي متر داخل البحر.
أما الآثار العمرانية التي لا تزال ظاهرة بين بساتين الليمون والتي وصف ركامها علماء القرن التاسع عشر وهي بقايا المدينة التي ذكرها سترابو الإغريقي وبليني الروماني في القرن الأول للميلاد باسم (أورنيتو) فهي، كما نفترض، أحياء أو ضواح لمدينة (يرموتا) التي فقدت أهميتها ودورها، كمدينة على الشاطيء، بعد أن طغى البحر على منشآت مينائها وغمر ساحاتها العامة وشوارعها المبلطة. وهذه الشوارع قد يفترض الكثيرون من الباحثين أنها لم تنتشر في المنطقة إلا خلال العهد الروماني، ومدينتنا غاب دورها التاريخي قبل الرومان بزمن مديد. وهذا ما يدعو إلى إعادة النظر في إحدى المسلمات التاريخية حين التأكد من تاريخية رصف هذه الطرقات وفق وسائل العلم الحديث.
أمّا بالنسبة إلى الشاطئ الرملي الذي تمتدّ امامه مدينة يرموتا فيعتبر محميّة طبيعيّة لسلاحف البحر، حيث تضع هذه الأخيرة الملايين من  بويضاتها في رماله.

تخليد التاريخ الانساني

مهما اشتدّت الظروف المناخيّة، والكوارث الطبيعيّة، يبقى الانسان المحافظ الأوّل على محيطه البيئيّ. فالسّعي الدّؤوب الذي يبذله البعض وحده الذي أمّن حتّى اليوم ما تبقّى من بيئة خضراء خضراء بلون الرّبيع وتوهّج الصيف الأزرق. فالبرّ والبحر والجوّ هي مكان الانسان الطبيعي، منها يستمدّ عناصر حياته. بالنّهاية عناصر الحياة الأربعة: الماء والنار والهواء والتّراب هي من مسؤوليّة الانسان، وإن لم يحافظ عليها فهو يمارس عمليّة انتحار وحده المسؤول عنها.
من هنا كان عمل "جمعيّة غدي" وعبر موقع "غدي نيوز" العمل على تسليط الضوء على المواقع البيئيّة ومدى الضرر الذي يسببه الانسان في بعضها أو حتّى الاهمال الممارس بحق بعض المواقع. فما المانع من إنشاء محميّة طبيعيّة على شاطئ براك التلّ لحماية سلاحف البحر ومنعها من الانقراض؟ وما المانع من إنشاء مدرسة للغطس على الشاطئ، حيث يكون في برنامجها الغطس لمعاينة مدينة يرموتا الغارقة ميدانيّا، وتقديم بعض الشروحات التاريخيّة حول هذا الموقع ومدى أهميّته في التاريخ القديم؟
تبقى الجهود البيئيّة المبذولة حول هذا الموقع وغيره وحدها الكفيلة بتخليد التاريخ الانساني ليتعلّم انسان اليوم من تاريخه القديم والحديث، فيعيش حاضره بهناء ورخاء ليبني مستقبله المزهر.
 

اخترنا لكم

قرّاء غدي نيوز يتصفّحون الآن