الجامعة الأمريكية من بلدة عبيه الجبلية إلى بيروت

Ghadi news

Tuesday, April 10, 2012

ليس ثمة من يعلم أن الجامعة الأميركية في بيروت التي كانت موئل طلاب العلم من مختلف الدول العربية منذ مطلع القرن الماضي، نشأت في بلدة جبلية صغيرة سنة 1866، هي بلدة عْـبَـيْـهْ المتواضعة مساحة والغنية في تاريخها الذي يعتبر ممراً أساسياً للدخول إلى تاريخ لبنان والمنطقة.

فهذه البلدة الجبلية الواقعة عند سفح تلة مشرفة على العاصمة بيروت، وتتبع إداريا قضاء عاليه، تم تصنفها سابقاً كمركز علمي ثقافي وروحي منذ أن اتخذها الأمراء التنوخيون عاصمة لإمارتهم، يوم أوفدهم الخليفة أبو جعفر المنصور إلى لبنان لحماية ثغور البحر المتوسط من هجمات الافرنج، فعمدوا إلى جانب المهمات العسكرية إلى الاهتمام بالعلوم لا سيما التي تدور حول مواضيع الدين واللغة والتاريخ والطب والفلك، كما وفد إليها آنذاك المشتغلون بالعلم والأدب وأصبحت حاضنة لعدد من المراكز التعليمية في ظاهرة ملفتة كون هذه البلدة جمعت مؤسسات تربوية لمعظم الطوائف والمذاهب اللبنانية.

البعثات التبشيرية البروتستانتية الاميركية

في مطلع القرن التاسع عشر هبت على أميركا رياح انتعاش روحي على يد جماعة من الطوائف الانجيلية، مترافقاً مع إشاعات حول اقتراب ملكوت الله وحلول العصر الالفي ومجيء المسيح الثاني والدينونة، وأسسوا لذلك "مجمع" في مدينة بوسطن عام 1810 لمندوبي البعثات التبشيرية، وحمْل بشارة الانجيل الى الوثنيين والامم والأقطار في العالم وخاصةً في الشرق، إذ اعتبروا أن معظم شعوب تلك المناطق لا تعتنق دين سماوي بل وثنيين، حتى أن بعضهم أنكر أن المسيحية والتوراة جاءتهم من الشرق بل البعثات التبشيرية هي التي أتت بهم الى الشرق! وبعدما لاقى هؤلاء المضايقات الكثيرة في المناطق اللبنانية، اتخذوا من عبيه مركزاً لهم، كونها في محيط منفتح إلى حد ما.
في النصف الأول من القرن التاسع عشر اتخذ المرسلون الأميركيون من عبيه محطة لهم وأسسوا عام 1835 مدرسة ابتدائية وفي 1839 مركزا طبيا، ثم اتفق العلامة كورنيلوس فانديك والمعلم بطرس البستاني مع نخبة من المثقفين على انشاء مدرسة لإعداد المعلمين أو المدرسة العالية الأميركية، وهذه كانت نواة الكلية السورية الإنجيلية في بيروت (الجامعة الأميركية اليوم) التي تأسست عام 1866.
وكانت مركز اعداد للمعلمين على مدى عقود أربعة واستقطبت الطلاب من كل مناطق لبنان والدول العربية، وكان لها الفضل في تخريج جمهرة من الأعلام الذين رفعوا راية النهضة الفكرية العربية ومنهم على سبيل المثال: نعوم مكرزل، خليل سعادة، سليم الخوري، علي ناصرالدين، يعقوب صروف، جبر ضومط وغيرهم، وشكلت حالة عصرية علمية وأسهمت في انتشار التعلم ومحو الامية بشكل واسع. لكن هذه البلدة خرجت بعد الحرب وكل مراكزها منهكة ومدمرة ولم يتبق من هذه الشواهد التاريخية إلا أطلال أبنية تنتظر يد أصحاب الشأن لتمتد وتنقذها من غياهب الاهمال والخراب.

جمعية إحياء تراث عبيـه

رئيس "جمعية إحياء تراث عبيـه" المؤرخ نديم حمزة شرح لـ "غدي نيوز" عمل الجمعية الذي يهدف الى "المحافظة على تراث القرية من حيث هي عاصمة الامارة التنوخية وفيها المباني الاثرية الشاهد على تاريخ مجيد وحقبة مهمة من تاريخ لبنان والمنطقة". وقال: نظمت الجمعية العديد من النشاطات الفكرية والبحثية في سبيل اعادة الاعتبار الى هذه الصروح وتحاول مع الجهات الرسمية وجمعية متخرجي الجامعة الامريكية ايجاد دور جديد يشكل رؤية مستقبلية تنهض بالبلدة والمنطقة ثقافياً وعلمياً لنعيد ترميم ما تهدم، وأصدرت الجمعية العديد من الكتب جمعت بين دفتيها الابحاث والدراسات، وأصدرت كتابا خاصا عن "مدرسة عبيه الاميركية العاليه" وهي اليوم الجامعة الأميركية في بيروت، خصوصاً أنها لعبت دوراً مفصلياً في تخريج العديد من المثقفين والاعلاميين والاكاديميين الذين ساهموا بشكل كبير في عصر النهضة العربية في نهاية القرن التاسع عشر والقرن العشرين.

أقدم بناء إنجيلي في لبنان

راعي الكنيسة الإنجيلية الوطنية القس حبيب بدر أشار إلى أن "البناء الموجود في بلدة عبيه يعتبر أقدم بناء إنجيلي في لبنان يعود تاريخه إلى العام 1846 ولذلك سنعمل على ترميمه بصورته الحالية وإبقائه على الطابع التراثي دون إدخال تعديلات جوهرية عليه". وأضاف: لم يتبق اليوم من أتباع المذهب في عبيه أي شخص بحكم الهجرة، ومبنى الكنيسة سيرمم وان بقي بدون مؤمنين، أما عن مبنى المدرسة فهناك اقتراح مشروع لتحويلها إلى مركز دراسات للتراث الإنجيلي ويكون الأول في لبنان والمشرق العربي، وسيضم أكبر قدر ممكن من الأرشيف والمخطوطات ووثائق تاريخيه عن الإرساليات والبعثات التبشيرية، ومذكرات المرسلين في القرنين التاسع عشر ومطلع القرن العشرين بالإضافة إلى تاريخ الإنجيليين ومدرستهم في لبنان، وتوضع هذه المواد تحت تصرف الباحثين والمهتمين وكمركز سياحة دينية وثقافية وحيد في المنطقة العربية فيما يخص طائفة الإنجيليين، ونأمل أن يكون بالتعاون مع الجامعة الأمريكية في بيروت.
"غدي نيوز" استطلع موقع المدرسة التي انطلقت من رحمها الجامعة الأميركية، وبدت غارقة في بحر الإهمال تنتظر اليد التي تمسح عنها غبار السنين المتراكمة، لتعود صرحا ثقافيا تاريخيا وسياحيا، دون إسقاط ضرورة أن تكون لها وظيفة متصلة بالعلم بروحية العصر والحداثة. وإن اقتضى الأمر إعلان مشروع توأمة مع الجامعة الأميركية في بيروت كي تظل هذه الجامعة وفية لجذورها القابعة حتى الآن في بلدة تتكئ بهدوء على ربوة تطل على المتوسط الذي منه أطلت البعثات الغربية التبشيرية فأغنت واغتنت بلبنان في معادلة التواصل بين الحضارات لصالح الإنسان ومستقبله.
 

اخترنا لكم

قرّاء غدي نيوز يتصفّحون الآن