*حبيب معلوف
لطالما فاخر الفكر الليبرالي بأن اقتصاد السوق يستطيع ان يؤمن الرفاهية للشعوب وأن يتجاوز بنفسه كل المشكلات من دون الحاجة الى تدخل احد، ولا سيما تدخل الدول. ولطالما اعتبر السوق إن إنتاج الأزمات هو من طبيعته، وانه يستطيع ان يستفيد من أزماته ويحولها فرصاً جديدة للاستثمار في السوق نفسه... ولكن هل استطاع اقتصاد السوق ان يحل المشكلات البيئية الناجمة عن الإنتاجية العالية لهذا الاقتصاد؟
عندما تعجز الدول عن تأمين مياه الشرب السليمة، يرد اقتصاد السوق بان الحل في خصخصة القطاع وتحويل المياه الى سلعة، يدفع كل مستهلك ثمنها... عندها يستطيع السوق ان يوفر المياه المعبأة النقية الى كل فرد.
وعندما تنحسر المساحات الخضراء في المدن، يفتح السوق محمياته للسياحة البيئية. او يزرع في كل سوق تسوق كبير أشجاراً وحدائق اصطناعية وهمية، تعوض فيها نفسياً عما فقدناه عمليا، فنحسب الوهم حقيقة.
عندما يزداد الضجيج في المدن، يخترع السوق الزجاج المزدوج والأبنية العازلة.
أما إذا ضرب التلوث كل شيء من حولنا، الهواء والغذاء والأدوات المصنوعة من شتى أنواع الكيميائيات التي باتت تتسبب بأمراض صحية قاتلة... فسيعمل السوق على تعديل جيناتنا لكي تستطيع ان تتكيف مع تغيير الطبيعة بدل العمل على معالجة المشاكل نفسها ومن مصادرها التي باتت غير قابلة للمعالجة.
ولكن هل هذه الحلول التي يقترحها السوق، هي "حلول" فعلا؟
بغض النظر عما اذا كان هناك من يستطيع دفع أثمان هذه الحلول المكلفة، والتي يفترض ان يزداد ثمنها مع الوقت ومع ندرة الموارد... الى متى نستطيع ان نحافظ على مياه معبأة معدنية ونقية اذا تلوث الهواء والتربة في اي مكان؟
الى متى نستطيع الاستمرار في إيجاد المواد الأولية لإنتاج المزيد من الزجاج؟ وكيف يمكن ان نحمي أنفسنا من تلوث هواء المدن؟ هل نسير والكمامات على أنوفنا؟ ام نخترع كمامات من لون الجلد للمحافظة على شكلنا، كما تحافظ وتهتم الأسواق بشكلها؟!
وكيف نستطيع الاستمرار في حماية المحميات عندما يجوع الحطّاب والفحّام والمعّاز... بسبب اقتصاد السوق الذي لا يوفر عملا لمثل هؤلاء؟
اما إذا ذهبنا في سيناريو تعديل جيناتنا لكي لا تضربها أمراض معروفة او لكسب مناعة ما أمام الأمراض المعروفة، فكيف يمكن ان نحمي أنفسنا من أمراض مستجدة صنعها اقتصاد السوق نفسه؟ وماذا عن الأوبئة التي يمكن ان تضرب بسرعة على مستوى النوع الإنساني، بسرعة وسائل الاتصال والانتقال التي اخترعناها وقبل ان تلحق بها الهندسة الجينية؟
طمر اقتصاد السوق الكثير من المشاكل تاريخياً وولد من تلك المطامر طاقات جديدة زاعما ان "لا شيء يضيع وكل شيء يتحول"، وقد بين علم الايكولوجيا، ان في كل يوم ينقرض اكثر من نوع من ملايين الانواع التي نعرفها والتي لا نعرفها بعد... وأن أحدا لا يستطيع التكهن ما ستكون نتيجة هذا الانقراض على التنوع البيولوجي وعلى الأمن الصحي والغذائي والحياتي... ومتى يأتي دور النوع الإنساني نفسه!
ليس هذا وحسب، فكما ضربت القضية البيئية منجزات الليبرالية الاقتصادية وإنتاجيتها، كذلك قد تضرب الليبرالية مكتسبات الحرية الفريدة ومفاهيم مثل الرفاهية والتقدم. وللحديث صلة.
*رئيس "حزب البيئة اللبناني"